حوادث لا تنسى في ذاكرتي – عبد الرحمن العبيدي

1 سبتمبر , 2017

بسم الله الرحمن الرحيم
(قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون)
صدق الله العظيم / التوبة 51

1.ما زلت ومنذ طفولتي وفي المرحلة الابتدائية كانت عيناي تحدق في الفضاء اللا متناهي لتتابع الطيور في خفقات أجنحتها لترقى على أجنحة الريح في سماوات الكون البعيد , كنت اشعر بميل غريب وشديد لمتابعة الطائرات المحلقة في أجواء مدينتي (الرمادي ) وهي تئز بأصواتها وقد تعلق ذهني بهذه السفينة الفضائية وكيف شاركت الطيور فضاء الكون الرحب سابحة تاركة خلفها خيطها الفضي ,لا اعرف كيف نشا ومن أين جاء , لقد كانت بلدتي قريبة من معسكر (الحبانية ) الذي يضم مطارا تقبع فيه طائرات متنوعة تطير في أوقات لا اعرف لها مواعيد فمرة توقظني من نومي قبل شروق الشمس صيفا يوم كان الناس ينامون فوق أسطح المنازل المكشوفة هربا من حرارة الغرف الداخلية وساحة المنزل الشرقي في شهور الصيف الطويلة أو عند تناول وجبة الإفطار الصباحي أو الغداء بل وحتى العشاء فتراني افزع من نومي او ادع طعامي لا قفز مسرعا واثبا لا قطع درجات السلم بلحظات لاقف على حافتي سطح منزلي متأملا ومتابعا بتلذذ واهتمام لهذه الطائرة او تلك لأرى حركات بهلوانية او حركات لا ادري سببها فهي تارة تنحدر عاصفة نحو الأرض كأنها تكاد تلامسها لترقى مندفعة تريد ان تعانق السماء الجميلة كجمال صباح بلدتي التي تغفو على كتف الصحراء الغربية وفي احضان نهر الفرات الخالد الذي يحتضنها ويعانقها كالعاشق الولهان .

2.كانت طائرات تطير من فوق مدينتي وكنا نطلق عليها اسماء (ام ذيل الاحمر) (ام الذيلين) وبعد سنين عرفنا اسمائها (الهوكر هنتر) (الفيوري) (ام البروانة) , كل هذه الطائرات كنت أحبها حبا جما واهتم بها بشكل لا يوصف ولا اعرف سبب حبي لها , لقد كان احد الطيارين المقاتلين (الملازم الاول الطيار مفيد العاني) اقرباء جيراننا وكان يمر بطائرته المقاتلة (الميك – 17) بارتفاع منخفض من فوق منطقتنا ( العزيزية) لمرات عدة وكنا صغار نفرح كثيرا عند مشاهدة هذه الطائرة او تلك ونفرح بمجيئه لزيارة اقرباءه في نفس زقاقنا (الدربونة) ونرى قيافته العسكرية وهندامه الجميل وسيارته الخاصة ونتجمع حوله نحن الصبية ونسلم عليه وتأثرنا بشخصيته اللطيفة وحديثه معنا وكنا ننتظره ولحين انتهاء الزيارة لا قرباءه ونودعه وكأنه شخص قريب منا ونحن مسرورين وبهذا العمر .

3.إنني لم أنسى يوما من احد الأيام المشرقة صباحا في شهر( أيار 1962) كنت جالسا في داري وقد سمعت صوت إحدى الطائرات الحربية فقفزت الى سطح منزلنا وقد كنت يومها فتى صغيرا لا يتجاوز عمري (عشر) سنين يوم تابعتها ورأيتها تمر مندفعة خلال الفراغ ثم ترتقي صاعدة نحو المجهول غير أن تلك الطائرة كانت متجهة من جهة الغرب إلى الشرق وبانحدار قليل وقد اختفى صوت محركها تماما ولا اسمع منه شيء ثم بدأت تنحدر تدريجيا نحو بساتين النخيل وأبنية المدينة العالية ومرت من قرب الجامع الكبير وسط مدينة الرمادي واختفت عن بصري تماما إلا إني سمعت بعد لحظات صوت دوي خافت أعقبه ارتفاع عمود من الدخان الأسود الكثيف, حينها استنتجت وانا طفل بهذا العمر أن الطائرة ارتطمت بالأرض فنزلت مسرعا من أعلى سطح منزلي وصحت بأعلى صوتي لوالدتي (يمه وكعت الطيارة وكعت الطيارة) , وركضت إلى مكان الحادث والذي يبعد عن منزلنا ما يقارب (1000) متر اقل او يزيد قليلا, وقد كان الناس يركضون باتجاه منطقة الحادث كبارا وصغارا وعند وصولي للمكان كانت (أجزاء الطائرة وأجزاء من جسم الطيار متناثرة هنا وهناك وشاهدت حفرة كبيرة بقطر (ثمان) امتار تقريبا مليئة بالماء والحطام وقد طفى فوقها زيت محرك الطائرة, وبعد مضي اقل من نصف ساعة جاءت طائرة مقاتلة أخرى كانت تبحث عن الطائرة المفقودة وبعد مشاهدة الطيار مكان الحادث مر من فوقنا بارتفاع منخفض جدا ليرى ماذا أحل بطائرة زميله , بعدها بدأت بجمع أشلاء جسم الطيار مع بقية الناس المتواجدين هناك من بين أجزاء الطائرة المنكوبة المبعثرة هنا وهناك وقد جمع جزء من أشلاء الطيار بشرشف ابيض وضع بتابوت قد هيئ لهذا الغرض , وخلال هذه الدقائق وصل عدد من ضباط (قاعدة الحبانية الجوية) ليتفحصوا الحادث وليقفوا عن أسباب ونتائج سقوط الطائرة ثم بعد ذلك شيَع جثمان الطيار رحمه الله من قبل حشد كبير من الناس اتجهوا به إلى (الجامع الكبير) ليصلوا عليه وسط صيحات الناس التي تعلوا مرددين (لا اله إلا الله محمد رسول الله) , وقد عرفت من خلال المشيعين أن اسم الطيار هو (الملازم الطيار طارق محمد أبراهيم ادهم ) من أهالي مدينة النجف الاشرف , وقد رجعت إلى البيت حزينا لما شاهدته في هذا اليوم الحزين .
ملاحظة
——–
بعد الاستفسار من (اللواء الطيار عادل سليمان) والذي كان امرا للسرب / 6والمسلح هذا السرب بطائرات (هوكر هنتر) عن هذا الحادث فأوضح لي بان الطائرة التي مرت من فوق الطائرة المنكوبة هو (أنا) حيث قامت السيطرة الجوية للقاعدة بالاتصال بي وانا في الجو وكلفوني بالبحث والتفتيش عن الطائرة المفقودة واستطاعت من مشاهدتها وإبلاغ السيطرة الجوية عنها.

4.وبعد مضي قرابة الشهرين من الحادث الاول وفي يوم الجمعة (27 تموز 1962) تحطمت طائرة (الملازم الطيار عامر محمد علي الربيعي) إثناء إقلاعها من قاعدة الحبانية الجوية – الهضبة) ولم يعرف سبب سقوطها هل هو خطأ طيار او عطل فني او تخريب ؟ وهو من أهالي مدينة الرمادي وقد شيع جثمانه رحمه الله من قبل أهالي المدينة ودفن في مقبرتها وقد شيدت له غرفة واسعة في المقبرة ووضعت صورته العسكرية مأطرة فوق قبره ، وقد عرفت فيما بعد أن هاتين الطائرتين التي سقطت هي نوع (ميك -17) روسية الصنع.
ملاحظة
——–
حصلت عن هذه المعلومات في المادة (4) أعلاه التي ذكرتها عن (الملازم الطيار عامر محمد علي الربيعي) من ابن أخيه الأخ العزيز (خبير جاسم محمد علي الربيعي) رحم الله الصقر(عامر) وتغمده برحمته الواسعة.

5.كما حدث على الطريق العام والذي يربط مدينتي (الرمادي _الرطبة) في الكيلو (70) حادث اصطدام طائرة مقاتلة (هوكر هنتر) بقيادة (الملازم الأول الطيار محمد مهدي حسن القصاب) من الدورة (13) في يوم الثلاثاء (13/12 /1966) السرب/29 وكان رقم (4) بالتشكيل المؤلف من (4) طائرات (هوكر هنتر) وقد أقلع التشكيل من (قاعدة H3 الجوية) واصطدمت بمنشأة نقل الركاب وكنا نسميها (نيرن) وقد قتل (24) شخصا وجرح عدد من الركاب وقد تم نقل الجرحى من مكان الحادث إلى مستشفى مدينة الرمادي لتلقي العلاج وقد (توفي) عدد من هؤلاء الجرحى , حينها قمت بزيارة الجرحى وبرفقة زملائي (عكاب عبد جاسم وقاسم عويد) عند سماعنا بالحادث لأسباب إنسانية وكنت حينها في الصف الثالث المتوسط ,علما بانني لم اعرف احد من الجرحى , أن هذه الحوادث لهذه الطائرات وغيرها لم تترك في نفسي كرها لهذه الآلة العجيبة المهيبة بل ازداد شوقي وانشدادي لها كلما تقدمت بي السنون ويكبر حلمي بامتطائها مع تقدم عمري ,علما بان (الملازم الأول الطيار محمد مهدي حسن القصاب) هو (خال اللواء الطيار الركن قحطان عزام) الذي زودني بهذه المعلومات, ويقول (اللواء قحطان) كنت ازور مكان الحادث كلما اذهب عند اجازتي من (قاعدة الوليد الجوية –H3) الى بغداد واقف بسيارتي واقرأ سورة الفاتحة على روحه واتوكل على الله واستمر بمسيري ,وبعد الاتصال والاستفسار من (اللواء الطيار عادل سليمان) عن حالة اصطدام احدى الطائرات بمنشأة نقل الركاب (النيرن) فأوضح لي بان الطائرة هي (هوكر هنتر) وكان واجبها (ضربة جوية تشبيهيه على اهداف متحركة)، وقد قام الطيار بالانقضاض على (النيرن) وبسرعة عالية وقد تأخر عند السحب وقد وقعت الطائرة بوضعية (الانهواء بالسرعات العالية) (HI SPEED Stoll) واصطدمت بمنشاة نقل الركاب(النيرن).
هذه هي ذكريات العمر التي لا زالت عالقة وراسخة في ذهني ومنذ طفولتي ولا تغيب عن بالي، سطرتها لكي لا ننسى صقورنا الابطال الذين استشهدوا من قوتنا الجوية اثناء التدريب ,رحمهم الله وتغمدهم برحمته الواسعة واسكنهم جناته .
عبد الرحمن العبيدي
الأربعاء 16/8/2017

 

  1. airforce - سبتمبر 1st, 2017 at 8:32 م

    شكرا للاخ عبد الرحمن العبيدي لهذا المقال الرائع لذكرى استشهاد كلا من
    1 . الملازم الطيار طارق محمد ابراهيم ادهم
    2.الملازم الطيار عامر محمد علي الربيعي
    3 .الملازم الاول الطيار محمد مهدي حسن القصاب