الجائزة قنبلة من فضة

20 فبراير , 2018

 

بمناسبة اعياد  الجيش العراقي ( هذا المقال )

إنعام كجه جي

هي لا تفقه شيئاً في حديث القنابل والأسلحة. وتتمنى لو ينصرف كل مقاتلي الدنيا إلى تعمير المدارس والمصانع والمستشفيات. لكنها ابنة ضابط ظلّ يحتفل بذكرى تأسيس الجيش العراقي حتى بعد أن ترك الخدمة، ويحتفظ بنجماته وأوسمته الملكية في علبة من القطيفة.

ومن رحمة السماء أنه لم يعش حتى انكسار الجيش في 2003، ولا عرف معنى الضباط «الفضائيين». وهم ليسوا من سكان الكواكب الأخرى، بل أولئك الوهميون الذين كانوا يتقاضون مرتبات حقيقية. هل تذكرون «حذاء الفضاء» الخفيف والمريح الذي كان مصنع أحذية «رافد» قد صممه، في سبعينات القرن الماضي؟ نعل يمشي به صاحبه ويتيه تيهاً، ولا أظنه يترك موقعه على الأرض، فكيف بمن يحلّق بطائرة؟

في الثاني من أبريل (نيسان) 1927، دخل المرحوم الشهيد نوري السعيد على طلبة الصف المنتهي في الإعدادية المركزية في بغداد، وقال لهم: «الملك فيصل يسلّم عليكم ويسأل: من منكم يحب أن يكون طياراً؟». لم يكن أي منهم قد رأى طائرة في حياته. لكن اثنا عشر طالباً رفعوا الأيدي من مجموع خمسين.

وفي اليوم التالي جاءت سيارات أخذتهم لإجراء الفحص الطبي في معسكر الهنيدي، الذي صار اسمه، فيما بعد، معسكر الرشيد. ولم ينجح في الفحص سوى اثنين، قاسم البزركان وحفظي عزيز. وانسحب الأول لرغبة عائلته في أن يدرس الطب، وبقي الثاني الذي سيصبح أول طيار عسكري عربي.

وبسيارة قديمة، سافر حفظي عزيز مع اربعة من طلاب المدرسة العسكرية لكي يتدربوا في كلية الطيران البريطانية لمدة سنتين، حملوا بعدها جناح الضابط الطيار. وكان التدريب يجري على طائرات خشبية من نوع «أفرو لينكس» ذات محرك واحد ومروحة من خشب، أيضاً. وبعد التخرج التحقوا بالأسراب الجوية الإنجليزية للتدريب سنتين إضافيتين.

في عصر نهار ربيعي من عام 1931، حطت خمسة طائرات في معسكر الوشاش ببغداد، يقود كلاً منها واحد من الخريجين الخمسة، يتقدمهم حفظي عزيز. وكان العراق قد اشترى طائرات من نوع «جيسي موث» سرعتها ثمانين ميلاً في الساعة، بسعر خمسمائة دينار للواحدة. واستغرقت الرحلة إلى بغداد أسبوعين كاملين. وقال لي الطيار الأول، وهو في أواخر عمره، إنه لو ركب بعيراً لربما قطع المسافة في وقت أقل.

40

الملك فيصل الاول يستقبل الدورة الاولى من الطيارين في 22 نيسان 1931

في استقبالهم، وقف فيصل الأول ووراءه جماهير غفيرة جاءت من كل المدن لتشهد الحدث العجيب. وبهؤلاء الطيارين الذين يعدّون على أصابع اليد نشأت القوة الجوية لتعزز الجيش العراقي الذي تشكّل فوجه الأول عام 1921. ويروى أن المس بيل، سكرتيرة المندوب السامي البريطاني، أرادت أن يحمل الفوج اسمها. لكن نوري السعيد ارتأى أن يتسمى باسم موسى الكاظم، الإمام الذي نشأ في بيت كان بمثابة جامعة للعلوم.

عمل حفظي عزيز طياراً خاصاً للأمير غازي، نجل فيصل الأول، وكانا في رحلة من الموصل إلى بغداد، ذات يوم، حين توقفت المروحة، فجأة، في منتصف الطريق. واضطر الطيار أن يهبط بطائرته كيفما اتفق، وحطّت على الأرض بسلام. نجا الأمير غازي ليصبح ملكاً على العراق في السنة التالية، ثم ليلقى مصرعه بعد خمسة سنوات في حادث سيارة، قيل إنه مُدبر من الإنجليز.

أما حفظي عزيز، فقد أصبح آمراً لعدة أسراب جوية، وبطلاً للعراق في الملاكمة، ونال جوائز عدة منها قنبلة من الفضة الخالصة لفوزه في مسابقة لإلقاء القنابل. ما ذنب الفضة، زينة معاصمنا وأناملنا، لتصاغ منها أسلحة الموت؟في سنة 1950 أصيب أول طيار عسكري عربي بنزيف في الرأس، وهو يقود طائرة جديدة من نوع «فيوري»، أغرته سرعتها بالتحليق فوق المدى المقرر. اعتزل الطيران ولزم الأرض. الأرض ذاتها مهد الحضارات التي عرفت أول جيش نظامي في تاريخ البشرية. وبعد تسعة قرون، في 2003، قرر بول بريمر، ممثل الاحتلال الأميركي، حلّ الجيش العراقي وكأنه يحل شبكة كلمات متقاطعة.