أسرار خفيه مابعد الحدث

28 مارس , 2020
#يوميات_مسيطر_جوي
مالك عبدالقادر المهداوي
تواجهنا مصاعب جمة للوصول الى القمة، أن الهدف ليس الوصول الى القمة، بل الهدف كيف تحافظ على بقائك بالجد والمثابرة على تلك القمة، ستواجهك المصاعب دون شك، فأعلم أن لم تديم زخم جهدك للبقاء، سوف تنحدر الى الوادي سريعاً دون أدنى شك وتفتقد تلك الجهود التي بذلتها، حينها ستظهر تلك الأسرار الخفية ما بعد الحدث، اليوم لم تعد الدنيا كما كانت من قبل، بل أصبحت كل المعلومات بمتناول اليد، بل أصبحت متاحة بفضل التواصل وعالم الانترنت التواصل الاجتماعي(Social Media)، لم تعد هنالك أسرار وخفايا يمكن كتمانها على العالم، مواقف نمر بها بل هي لحظات أن أحسنت التعامل معها بإدراك ستكون قد تجنبت المخاطر، وأن لم تحسن التعامل معها، سوف تقع في أخطاء متعاقبة، حينها لا ينفع التبرير أو الاعتذار أو الاخفاء، هذا ما تعلمناه في عملنا في السيطرة الجوية.
راقب العالم مع بداية العام الجديد 2020 أحداث وتطورات كانت أرض العراق مسرحها، تلك الأحداث  المتسارعة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، مقتل قاسم سليماني والمهندس في غارة جوية أمريكية، وجاء الرد الإيراني في بواكير ساعات يوم الاربعاء8/كانون الثاني بعد منتصف تلك الليلة بإطلاق صواريخ على قاعدتي عين الاسد وأربيل والتي تتواجد فيها القوات الأمريكية دون إصابات تذكر حسب إعلان الجانب الأمريكي، هنا كانت الأمور تسير بشكل عالي من التحدي، على الجانب الآخر استعداد قوات الدفاع الجوي الايراني خوفاً من الرد الأمريكي على الضربة، جاءت الساعة السادسة والنصف من صباح ذلك تغيرت المعادلة بالضد من إيران دون الرد الأمريكي، بكارثة لم تكن متوقعة ولم يحسب لها حساب.
في الساعة 06:12 صباحاً حسب التوقيت المحلي لمدينة طهران 02:42 بتوقيت غرينتش، أقلعت الطائرة (Boeing _737_800) والتي تعد أكثر طائرة أستخدام وشعبية في العالم، وقد انتجت شركة بيونك 5000 طائرة من هذا الطراز منذ انطلاقها في عام 1994م، وكما جاء في سجل سلامة الطائرة، أن الطائرة الاوكرانية قد تم تصنيعها في عام 2016م وخضعت آخر مرة للصيانة قبل يومين من إقلاعها، وعلى متنها طيارين ومدرب ذوي خبرة، ولم تتعرض الشركة منذ تأسيسها عام 1992م لحادث مميت، فقد كانت وجهة الطائرة من مطار مهر أباد(خميني) الى العاصمة الكندية تورنتو مروراً بالعاصمة الأوكرانية كييف بالرحلة المرقمة PS752،وبدأت الطائرة بالتسلق للوصول الى الارتفاع المطلوب لاستخدام المجال الجوي، وعند الوصول الى ارتفاع 8000 قدم(2400 متر) فقدت الطائرة الاتصال برادار المطار بعد إقلاعها بدقائق، وأعلنت السلطات الايرانية عن أن أسباب سقوط الطائرة الاوكرانية، بأنها قد واجهت مشاكل تقنية! وأشارت الى شهود عيان بضمنهم طاقم طائرة مسافرين أخرى قالوا أن النيران قد اشتعلت في الطائرة الاوكرانية في الجو قبل تحطمها؟ وأفاد تقرير أنه لم يكن هناك أي نداء إستغاثة عبر موجات الراديو من الطيار! لم تكن رواية السلطات الايرانية مقنعة لان حادث تحطم الطائرة الاوكرانية جاء بساعات بعد من إطلاق الصواريخ البالستية على القواعد الامريكية بالعراق، وكذلك لو حصل حريق في أحد محارك الطائرة فإنها مصممة لكي تتمكن  من الاستمرار والنزول بسلام. لقد بدأت الشكوك تحوم حول السبب الرئيسي رغم تكتم السلطات الإيرانية لاستبعاد ضلوعها بالحادث لكن ظهور أدلة تدعم فرضية إسقاط الطائرة بصاروخ أرض جو قد بدات بالظهور بعد الحصول على فيديو مسرب الى صحيفة نيويورك تايمز يظهر صاروخاً ينطلق الى السماء ليلاً ثم ينفجر بعد إصابة الطائرة، مما جعل السلطات الايرانية تعترف بأنها أصابتها عن طريق الخطأ مخلفةُ كارثة إنسانية حيث بلغ عدد الضحايا 176 شخصاُ من جنسيات متعدده 28 أيرانياً 63 كنداً 11أوكرانياً 10 سويديين 4 أفغان 3 بريطانيين 3 ألمان، في حين كان على السلطات الايرانية تفادي هذه الكارثة بوقف الطيران المدني بهذه الظروف الحرجة التي تعتبر إعلان حرب ، او التنسيق العالي بين منظومة الدفاع الجوي بتقيد الاسلحة والصورايخ المحيطة بالمطار في حال إقلاع الطائرة، أو أختيار ممر منتخب معلوم تكون الأسلحة فيه مقيدة، والتأكد من تمييز الهدف بدقة وحرص شديد قبل تدمير الهدف،علماً أن تسع طائرات أقلعت قبل الطائرة الأوكرانية المنكوبة أو سر آخر غير معلن.
لم تنتهي القصة الى هنا بل هناك قصص قد تتشابه الأحداث أو تختلف مررنا بها!!!
أقلع تشكيل أقلاع فوري في أحد أيام عام 1982 من قاعدة الوليد الجوية لاعتراض طائرة مدنية كانت قد تركت الممر الجوي القريب من الحدود العراقية غرب العراق بمسافة قليلة داخل الحدود الأردنية لقد اخترقت هذه الطائرة الحدود العراقيه لذلك تم التشكيل على هذه الطائرة وإجبارها على النزول في مطار النظائم الثانوي وتبين بعد التحقيق الاستخباري أنها طائرة تابعة للخطوط الهندية وحصل خطأ غير مقصود،  وبعد أربع ساعات أطلق سراح الطائرة بعد إبلاغ سلطات الطيران العالمي لتوخي الحذر وعدم التمادي في هذا الأمر.
المكان قاعدة الوليد الجوية(H3) غرب العراق في أحد صباحات شتاء سنة 1995م، ، ونحن متواجدين في بهو السيطرة في الطابق الأرضي ولدينا ضابط خفر في برج المراقبة أعلى البناية، وكانت الأجواء غير ملائمة للطيران التدريبي لذلك كان المطار مغلق بسبب الضباب الكثيف ومدى الرؤيا المتدنية الذي يخيم على المنطقة في تلك الأوقات من السنة، رن جرس هاتف الدفاع الجوي معلناً أمراً للإقلاع الفوري لطائرة واحدة، هرعنا بسرعة الى البرج لاستخدام سلم يتكون من 104 درجة تاركين أنتظار المصعد الكهربائي، أقلعت الطائرة في وسط هذه الأجواء الضبابية وتم تحويل الطائرة الى قناة الدفاع الجوي الثاني، حضر أمر جناح الطيران العقيد الطيار الركن حسن صالح امر جناح الطيران الى البرج وذهب آمر السرب المقدم الطيار الركن فيصل والقلق يشوب الموقف، هنا قلت لأمر جناح الطيران سيدي لا تنفعلوا أو يصيبكم التوتر (لا تخبصونه) دعوني أنا أتكفل بإنزال الطائرة بواسطة جهاز الهومر بسهولة، لكون رادار النزول كان في تلك الفترة عاطلاً بسبب الحصار لعدم توفر مواد أولية، هنا أطمأن الجميع، وأنا في بالي أخطط واستحضر سيناريو وأسلوب مساعدة الطيار بعد أكثر من ربع ساعة عادت الطائرة الى المطار وتم تأمين الاتصال معه، وصل فوق المطار واستدار الى ضلع مع الريح وهنا بدأت بالاتصال المتقطع لكي أحدد موقعه بالنسبة للمطار بواسطة جهاز موجود الاتجاه(اDF)وصل مرحلة نهاية ضلع مع الريح وأستدار بأتجاه التقرب وعندما أستوى بأتجاه المدرج قام بالاتصال فكان الاتجاه مطابق لاتجاه المدرج أعلمت الطيار بأن ألاتجاه صحيح والتأكد من نزول العجلات وبدوره بدأ الانحدار التدريجي، ونحن نلاحظ ونحاول أن نرى الطائرة والقلوب واجفة، وها هو شبح اسود يظهر بين الضباب وكأنها شاشة السينما يظهر فيها الشبح هنا قلت أنت مشاهد مسموح النزول فأجاب نعم أن ارى المدرج، لامست الطائرة سطح المدرج وتنفسنا الصعداء وحمدنا الله على فضله على سلامة الطائرة والطيار في مثل هذه الظروف الصعبة،وكان النقيب الطيار الرشيد العاطي هو قائد الطائرة الميك 21 المسلحة لقد كان شجاعاً ولم تحد الاجواء الرديئة من عزمه وأصراره وبفضل التدريب العالي، ومن المفارقات التي رافقت هذا الموقف، طلبني أمر جناح الطيران الى مقر الجناح، فذهبت ووأديت التحية العسكرية وسلمت علية وقال: سوف أقوم بتوجيه لك كتاب شكر على موقفك الشجاع، فقلت:سيدي كتاب الشكر موجه لي أنا وزميلي، قال لا فقط كتاب الشكر لك وحدك فقلت له سيدي أما أن يكون كتاب الشكر لنا أو لا أريده، فقال هذا أخر ما عندي وأشكرك شفاهً، وفي الجانب الآخر يقول لي النقيب الطيار الرشيد العاطي عند نزولي أستقبلني زملائي بالترحيب والشكر والثناء لله وقال لي أحدهم ممازحاً الرشيد لقد أرسلناك لتموت لا أن تعود إلينا سالماً وضحك الجميع.
وهنا تأتي أسرار ما بعد الحدث تنثر حكايتها ويروي لي الطيار الرشيد العطا ويقول ما بعد الإقلاع تم التوجه بأوامر مسيطر القاطع الى الغرب وقاطعني مع هدف لازال بعيداً، وبدأت المسافات تتقارب وأنا في جاهزية تامة واستحضرت كل الإجراءات المطلوبة في ذهني، لاح لي الهدف وظهر بالرادار وعمرت المدفع وجهزت الصواريخ المهمة، وكلما اقتربت يبدو لي ان الهدف كبير، ظهرت لدي اشارة القفل على الهدف فقلت لمسيطر القاطع أني جاهز للاطلاق ورمي الهدف،قال أنتظر الأمر وأنا باقي محافظ على المسافة التي بيني وبين الطائرة، وهنا جاء الأمر من مسيطر القاطع أن أوقف كافة الإجراءات الاعتراضية وأعود أدراجي لانتفاء الحاجة للواجب بعد ابتعاد الطائرة الى خارج الحدود العراقية باتجاه الاراضي الاردنية الى هنا يأتي الخبر الذي كان خفياً عن الطائرة التي كانت تتقرب الى الحدود العراقية مبتعده عن الممر الجوي القريب من الحدود العراقية الغربية وبعد الاستعلام والتدقيق تبين أن هذه الطائرة كانت قادمة من سوريا باتجاه السعودية وتحمل على متنها الامين العام للامم المتحدة كوفي عنان ولو قدرت وأسقطت لكانت كارثة على العراق في حينها ومن هذا الحادث أو الأمر كانت كل الإجراءات التي أتخذت من قبل قاطع الدفاع الجوي إجراءات سليمة وصحيحة ضمن سياقات الدفاع الجوي النموذجي دون تخبط أو تردد والتقيد بأوامر الاشتباك والتمييز قبل الاطلاق تحية أكبار وأجلال لابطال القوة الجوية والدفاع الجوي رحم الله من غادرنا والصحة والسلامة لمن معنا، من خلال هذا المنشور وتبيان الفارق الكبير بين ما حدث للطائرة الاوكرانيه وما حدث في القصة الاخيره .
********