نبذة عن نفاثات الإقلاع والهبوط العمودي (V.T.O.L)

21 ديسمبر , 2018

 

 د. صبحي ناظم توفيق
  عميد ركــن متقاعد.. دكتوراه في التأريخ
   10 -كانون ١ -2018

تمهيد

في دراستي السابقة أوضحتُ بأن مُبتغاي هو تصحيح معلومات منشورة لدى الكثير من مواقع الإنترنت من تلك التي تُربِك المتابع عند تصفّحه مقتطفات عن الطائرات، ناهيك عن الخلط بين صورها لتشابه بعضها ببعض ومبالغات عدد من أصحاب المقالات في كيل مديح لهذا أو قدح لذاك لأسباب شتّى، بل أن عدداَ منهم ليسوا ضليعين في علوم الطيران وتأريخه فيقترفون أخطاءً لا تُغتَفَر لدى تعريبهم مصطلحات أو معلومات من المصادر والمراجع، تُضاف إليها محدودية متابعتهم لأخبار الطيران والطائرات… لذلك إعتمدتُ على المجلّد الرصين والموسوم “أحدث الطائرات العسكرية” (MODERN MILITARY AIRCRAFT) الصادر من مؤسسة (CHARTWELL) ذائعة الصيت مرجِعاً لإستخراج قدرات الطائرات ومواصفاتها والبعض من محطات أحداثها.
فكرة نفاثات الإقلاع والهبوط العمودي
بعد إيلاج أولى المقاتلات النفاثة الآلمانية أجواء المعارك الجوية عام (1944) خلال آخر سنة من الحرب العالمية الثانية، فقد أخذ الحلفاء المنتصرون العشرات من العلماء الآلمان النازيين الأسرى والذين كانوا قريبين من زعيمهم “آدولف هتلر” ومتعاونين مع نظامه وإستثنوهم من تُهَم النازية (((بأوامر خاصة من الرئيس “هاري ترومان” ورئيس هيأة الأركان العامة “الجنرال جورج مارشال “، وكذلك عمل الزعيم السوفييتي “جوزيف ستالين” من بعدهما))) وإعتبروهم ثروة علمية وإحترموهم وكرّموهم وأناطوا إليهم مناصب عالية وحسّاسة للإفادة من أدمغتهم الجبارة وخبراتهم المتراكمة وتجاربهم الأخّاذة، وبالأخص في مجالات الطائرات والصواريخ لتطوير ما لديهم منذ مطلع الخمسينيات، وبذلك نأى الحلفاء بإنقضاء الأعوام عن الطائرات المزوّدة بمحركات

أولى الطائرات النفاثة في العالم وهي المقاتلة الآلمانية الإعتراضية “مِسَّر شميدت/Messerschmidt-262” والتي أُدخِلَت الخدمة الميدانية لدى القوات الجوية الآلمانية عام (1944).
الإحتراق الداخلي المعتمِدة على الإسطوانات (PISTONS) والمراوح ذات الرِيَش (PROPELLERS) وعَدّوها شيئاً من الماضي، وذلك بعد أن برهنت الطائرات المزوّدة بمحركات نفاثة إمكاناتها بحروب الخمسينيات في “كوريا، السُوَيس”، وقد إصطفت إلى جانبها السمتيات (الهليكوبترات) بأدوارها البارزة في مجالات نقل القادة والإستطلاع والرصد والإسعاف ونقل القوات الخاصة قبل أن يتمّ تسليحها وتضحى مقتدرة على تقديم الإسناد الجوي القريب للقطعات الأرضية.
وعندئذٍ راودت الطيارين والخبراء خَيالات الإستغناء عن المطارات الواسعة والقواعد الجوية ذات المساحات الشاسعة والمدارج الطويلة والتكاليف الباهظة التي تتطلّبها الطائرات بأنواعها، حتى تَفَتّقَت العقول لإمتلاك طائرة مقاتلة/هجوم أرضي نفاثة وقادرة على الإقلاع عمودياً من بقعة صغيرة والهبوط فيها بالأسلوب ذاته.
التجارب الأولى
بدأ التخطيط مطلع الخمسينيات لإنتاج هذا النوع الجديد، ولكن نماذجها لم تَرْقَ لمستويات التصنيع لصالح أيّ من القوات الجوية أو الطيران البحري أو طيران الجيش، والأمثلة عديدة يطول ذكرها من تلك التي باشرت بها الولايات المتحدة ثم آلمانيا الغربية وتبعتهما فرنسا، وجميعها باءت بالفشل إمّا لأسباب تقنية أو تحطّمت في طلعاتها الأوّلية أو لم تَكفِ المبالغ المرصودة لمواصلة البحوث وتحسين التصاميم.
وإبتغاء عدم الإطالة على المتابع العزيز فسأقتصر هذه الدراسة على التجارب الناجحة فحسب.
بريطانيا السبّاقة
كانت “بريطانيا” ما زالت محتفظة بالبعض من مميّزاتها العظمى رغم تراجعها على المستويين الإستراتيجي والإقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية، وقتما خاضت بدراساتها في أواخر الخمسينيات لتصميم مقاتلة/هجوم أرضي قادرة على الإقلاع العمودي -أسوة بالهليكوبترات- أو القصير للغاية والتحوّل لطيران أفقي سريع كأية طائرة نفاثة قبل العودة للهبوط وسط بقعة صغيرة، وقد أُصطُلِحَت عليها بعبارة (Vertical- Short Take Off & Landing) ومختصرها الدارج (S.T.O.L/V)، حتى أعلنت يوم (21/10/1960) عن تحليق نموذج أوّلي ناجح لطائرة هجوم أرضي وإسناد قريب سمّتها “جامب جيت JUMP JET” وقد أنتجتها شركة “هوكر سيديلي HAWKER SIDDELEY” ذات الصيت قبل عرض نماذج عديدة منها يوم (1/2/1964( أمام قادة القوة الجوية الملَكيّة الذين أسرعوا لإبرام عقود لشراء (132) من هذه الطائرة التي أُستُبدِلَ إسمها إلى (هاريَر-HARRIER) فتكامل زجّها بالخدمة عام (1969).

المقاتلة/هجوم أرضي البريطانية “هارير/Harrier” تعتبر النفاثة الناجحة الأولى في العالم من حيث الإقلاع والهبوط العمودي عام (1960).
أمّا البحرية الملكية البريطانية فقد تأخرت كثيراً حتى إتفقت مع الشركة المنتجة عام (1975) على إجراء تحويرات ذات شأن لتطوير الـ”هاريَر” إلى “سي هارير” لتكون ذات مقدرة للعمل على حاملات الطائرات وفي أجواء البحار والمحيطات، ولربما كان قادتها يسرعون لو كانوا قد قدّروا الأداء الممتاز لمقاتلتهم المحمولة هذه على حاملة طائراتهم في “حرب فوكلاند” مع “الآرجنتين” في صيف عام (1982).

   
المقاتلة/هجوم أرضي “سي هارير” لدى القوة البحرية الملكية البريطانية
الولايات المتحدة تقتني الجاهز
ومن دون خطط وتصاميم مسبقة وصرف المليارات على نماذج تجريبية قد تخفق بأية مرحلة، فقد سارع قادة مشاة البحرية (مارينز) الأمريكيون لإقتناء الجاهز من حليفتهم “بريطانيا” دون إضاعة وقت، وقتما إستحصلوا إمتيازاً خاصاً لصناعة الـ”هاريَر” -طبق الأصل- لديهم تحت مسمّى “AV-8” قبل أن يضيفوا عليها من خبراتهم ويطوّروها لأجواء البحار والمحيطات ليستثمروها بواقع (110) طائرات بمهمات الإسناد الجوي القريب من على ظهر سفن الصولة البرمائية (حاملات هليكوبترات المارينز) منذ عام (1971).

طائرة الهجوم الأرضي النفاثة الأمريكية “AV-8” تقلع عمودياً من حاملة طائرات، وهي شبه طبق الأصل للمقاتلة البريطانية “سي هاريَر”.
ولكن كلتا الـ”هاريَر” البريطانية ومثيلتها الـ”AV-8″ الأمريكية لم تلقَيا رواجاً واسعاً في سوق السلاح المُربِح، ولم يقتَنِ منها حتى صانعوها سوى بضعة أسراب خُصِّصَت للعمل على حاملات الطائرات وسفن الصولة البرمائية (حاملات الهليكوبترات) لمشاة البحرية/المارينز إلى جانب عدد من الدول الست -غير العظمى- الممتلكة لحاملات طائرات، وذلك لبهاظة أثمانها وسرعتها الأدنى من الصوت والتي لا تتيح لها أن تكون مقاتلة إعتراضية تحقّق “التفوّق الجوي” الذي يُعتَبَر من أهم متطلّبات الحروب الحديثة، ولذلك إنصبَّ إهتمام الدول المنتِجة على تطوير نفاثاتها الأسرع من الصوت سواء كانت مُعتَرِضات أو هجوم أرضي أو قاصفات أو إستطلاع. 
الإتحاد السوفييتي يلحق بالركب
في خضمّ سباق التسلّح المحتدم بين المعسكرين الشرقي والغربي منذ النصف الثاني من الأربعينيات وصراع المخابرات الدائر وراء الكواليس لإستحصال أسرار تكنولوجيات الأسلحة والمعدات، فاجأ السوفييت العالم عام (1963) بنموذج أوّليّ لمقاتلة/هجوم أرضي تقلع وتحلّق أفقياً كأية مقاتلة نفاثة بسرعة مقبولة ثم تهبط عمودياً، وسُمِّوها (ياك-36) التي أنتجتها مصانع “ياكوفليف” المملوكة للدولة، ولكنها لم تَرُقْ لقادة القوات البحرية وطيّاريهم الذين لم يرتضوا بإقتنائها على هذه شاكلتها

   
“ياك-36” هي المقاتلة النفاثة (الناجحة الأولى) في العالم القادرة على الإقلاع والهبوط العمودي والتي أنتجها الإتحاد السوفييتي عام (1963)
المتواضعة، حتى تجري الشركة المصنّعة “ياكوفليف” تحسينات عديدة عليها فتقذف أمام أنظارهم مقاتلتها الأحدث “ياك-38” التي أدخلوها أواسط السبعينيات في خدمة إثنَتَين من حاملات طائراتهم الأربع رغم تعقيدات الطائرة من حيث كونها مزوّدة بـ(ثلاثة) محركات نفاثة وبسرعة أدنى من الصوت وحمولة متدنّية من الأسلحة إضافة لغلوّ ثمنها، ولذلك لم تَلْقَ رواجاً لدى عرضها على الدول الصديقة فبقيت حبيسة لدى طيران البحرية السوفييتية بواقع (231) طائرة فقط.

المقاتلة/هجوم أرضي السوفييتية “ياك-38” على ظهر حاملة الطائرات “كييف” أواسط السبعينيات
ظلّ الحلم يراود السوفييت في إنتاج مقاتلة أسرع من الصوت يُناط إليها مهمات التفوق الجوي في أجواء المياه البعيدة التي تعمل فيها أساطيلهم العملاقة، حتى أنتجت مصانع “ياكوفليف” المتخصصة عام (1987) مقاتلة الإقلاع العمودي “ياك-141” الأفضل من سابقتها وبحمولة أكثر ومدىً أبعد وسقف إرتفاع أعلى وبسرعة تفوق الصوت بـ(1,5) مرة. وبينما كانوا يجربون نماذجهم الأولى على حاملة طائراتهم “الأدميرال غورشكوف” عام (1991) أدّى هبوط عنيف إلى إحتراق إحداها.

المقاتلة الأحدث ذات الإقلاع والهبوط العمودي “ياك-141” والتي إبتغى الإتحاد السوفييتي عام (1991) إدخالها الخدمة على إحدى حاملات طائراتها.
ولما كانت الدولة السوفييتية آيلة إلى التفكّك جراء المعضلات التي هَرّأت نظامها الإقتصادي بصرفياته الهائلة على التسلّح، فقد قرّرت إيقاف هذا المشروع الضخم قبل إنهيار دولتهم العظمى أواخر ذلك العام.
إنشغلت “روسيا الإتحادية” بما ورثته من أعباء سَلَفِه الثقيلة منذ إعلانها أواخر (1991) فخُزِنَت نماذج الـ”ياك-141″ في مستودعاتها طيلة ربع قرن حتى قرّرت القيادة الروسية الراهنة مؤخّراً إجراء دراسة لإحياء مشروع جديد بالإفادة ممّا تحت يدَي مصانع “ياكوفليف” من تقنيات الإقلاع والهبوط العمودي الأسرع من الصوت ومن طراز “الشبح” الخفيّ على الرادارات.
“المقاتلة الأحدث “لايتننك F-35” 
صراع التفوّق التكنولوجيّ -وخصوصاً في الأسلحة الثقيلة، وبالأخص في مجالات الطائرات- لا يتوقّف ولا حدود له، فبعد الحصول على نفاثات الإقلاع والهبوط العمودي غير السريعة أمسى الطموح نحو الأسرع من الصوت، ولمّا تحقق نظروا إلى “الشبح” المخفي عن الرادار ، وحالما أصبح بالمتناول حلموا بمقاتلة تجمع بين ثلاثة خواص ((إقلاع وهبوط عمودي، سرعة تفوق الصوت، إختفاء عن الرادار))، فلم يبخل العلماء والخبراء في تحقيق الحلم بإيجاد تقنية للتحكّم بإتجاه نفث الهواء المندفع من أنبوب النفث (JET PIPE) نحو الأسفل عوض النفث الأفقي المعمول به لدى جميع طرز النفاثات عدا الـ”هاريَر، V-8، ياك-38″، فقفزت إلى الوجود طائرة أقرب ما تكون إلى المثال بتوفير الصفات الثلاث ممثّلة بالمقاتلة “لايتننك F-35” التي سنأتي عليها بدراسة قادمة بعون الله تعالى.