كنا على كف عفريت

18 فبراير , 2020

 

 

ل ط ر د علوان العبوسي

17 /  2 / 2020

تحية طيبة

شوقني الأخ الحبيب العميد الطيار الركن محمد طارق عمر بعد اطلاعي في الفيس بوك على مقال له لحادث طيران أدى به للقذف من الطائرة المزدوجة الميج 21 ، لسرد بعض وقائع واحداث الطيران التي كانت تصادفنا اثناء خدمتنا في سلاحنا الجوي العظيم ، وددت سرد البعض منها للاستفادة والتشويق ..اذكر لكم البعض منها عندما كنت برتبة ملازم اول طيار على الطائرة سوخوي / 7 مع التقدير.

في 8/4/1971 استحقت الطائرة المزدوجة «سوخوي7» المرقمة 0765 تفتيش 100 ساعة، مما تطلب نقلها الى الخط الثاني في  بغداد لأجراء الصيانة والتفاتيش الدورية المعتادة لهذا النوع من الطائرات ، وتقرّر أن يصاحبني في هذه الرحلة الملازم المهندس زيد عبد الحميد مهندس السرب الأقدم،  لاستحقاقه الإجازة الدورية(علماً أنه ضمن سياقات طيران الطائرة المزدوجة يجب أن لا يترك الكرسي الآخر  فارغ دون  طيار، أو يوضع وزن مقارب للطيار بعد أن يربط جيداً وذلك لاختلال توازنها خاصة  أثناء الهبوط ) ،، توكلنا على الله منذ الصباح الباكر بعد التأكد  من أن  الحالة الجوية في خط الرحلة إلى  بغداد جيدة  ،  قبل الطيران  قمت بتلقين المهندس زيد  بعض الأمور الفنية ذات العلاقة بأسلوب القذف من الطائرة في الحالات الاضطرارية ، أثناء الطيران كان الجو على العموم  غائماً جزئياً، والغيوم  متفرقة غير خطرة (سرس ) ، ومدى الرؤيا أكثر من 5 كلم ،، أقلعنا باتجاه بغداد 080، وقمت بتنظيم جهاز الاتجاه الراديوي(RADIO COMPASS)، على إذاعة بغداد وبدأ خط رحلتنا  بالتسلق التدريجي بعد تأمين الاتصال مع  قاطع الدفاع الجوي الثاني ، وأثناء التسلق وبعد تجاوز ارتفاع 3000 متر، كانت هناك  غيوم متقطعة  هنا وهناك فوق الرطبة لكنها غير خطرة، فقررت الدخول فيها لكونها على خط التسلق، ولا ضير من ذلك وأنا قد تدربت على دخول الغيوم كثيراً مع الطيارين القدامى، ومنهم المرحوم نزار علوان السعدي، وجودت خانقا، وآمر السرب حاكم الأعرجي، وأصبحت عندي ثقة عالية في طيران الغيوم الذي يعتمد على الآلات ، في هذه الأثناء قمت بفتح الأجهزة التي تساعدني على الطيران داخل الغيوم، ومنها أجهزة إذابة الجليد، والتضبب، والطيار الآلي ، وقد أخبرت زميلي زيد بأنّي سأدخل داخل الغيوم فلا يقلق، حيث ستكون هناك مطبات بسيطة ، استمر التسلق الى 6000 متر، ولكن الغيوم أصبحت كثيفة وتغيّر لونها الى السواد القاتم، وبدأت الطائرة تستلم  شحنات كهربائية، وهذا ما كان يظهر  أمامي من خلال البرق شديد الوهج   تسبب لي عمى مؤقت ، ثم بدء  ارتطام كرات من الثلج بحجم كرة التنس  تصطدم بمقدمة الطائرة، وتتفتت على الزجاج الأمامي لها، والتي تكون عادة سميكة «10-15 سم»، ثم  أثلجت الأسطح الخارجية  للطائرة بشكل كامل، وأنا أحاول أن أخرجها  من هذه الغيوم التي بدأت تقلقني، ولم أكن أعرف موقف طائرتي الحالي  لكي أتخذ الإجراء المناسب   بعد عطل  أجهزة الارتفاع والسرعة والتسلق والانحدار، كونها تعتمد على تلقي الهواء من أنبوب الإدخال( PITU TUPE  )وتعطّل كذلك جهاز مؤشر الاتجاه، وثقلت عصا  القيادة عن سابقها  بعد تراكم الجليد كما أشرت،  ثم  تذبذب دوران المحرك ( RPM) ما بين الدوران البطيء ومتوسط الدوران ( 47 % – 80 % ) دلالة على دخول كرات الجليد  داخل المحرك ،  حاولت استخدام الطيار الآلي لكنه لا يعمل لكونه يعتمد على الأجهزة التي أشرت لها آنفاً ، في الحقيقة كان خوفي من انطفاء الطائرة وهو وارد في مثل هذه الظروف إذا استمرت الحال كما هو عليه ، لم يبقَ لدي سوى الدعاء لله سبحانه أن ينقذنا من هذه الورطة، وقد استنجدت به سبحانه،  وبقيت هادئاً  أنتظر موقفاً معيناً أستطيع من خلاله معرفة وضع الطائرة، لكي أقوم باتخاذ إجراء معين ،، قطع تفكيري نداء  زميلي المهندس  زيد قائلاً (أبو أحمد كافي ألعاب  تره نفسي لعبت وسوف أتقيأ ) ، هو يعتقد أنني أقوم بإجراء مناورات بالطائرة ولا يعلم ما يجري حقيقةً، وإننا  في قلب عاصفة ثلجية خطيرة،  وهناك تيارات صاعدة ونازلة شديدة يتسبب عنها تعجيل أرضي مرة سالب وأخرى موجب NAGATIV  AND  POSSATIVE-G  ) )، هدّأتُ  من روعه قائلاً: اهدأ واصبر قليلاً ولم  أقل له نحن في مشكلة ، استمر الحال أكثر من  5 دقائق بعدها لاحظت عمل عدادات الارتفاع والسرعة وباقي العدادات «دلالة على ذوبان الثلج وانحساره عن أنبوب تلقي الهواء»، وهي تعمل بسرعة خاصة عداد الارتفاع فهو يؤشر إلى انحدار شديد للطائرة باتجاه الارض مع ازدياد بالسرعة ، قمت بإرجاع ضابطة الوقود «THROUTTL» الى الدوران البطيء «IDLING» وتعديل وضع الأجنحة الى الطيران الأفقي المستقيم، وسحب الطائرة من وضع الانحدار بشدة ،، وقبل أن أخرجها من الانحدار بانت أمامي  صحراء المنطقة الغربية بلونها  البني  المائل  للسمرة الداكنة بسبب الأمطار الشديدة المنهمرة في ذات الوقت   وكان ارتفاعي   200 متر ، دفعت  ضابطة الوقود الى وضع أقصـى ـ دوران «MAXIMUM»، وسحبت حوالي  5  –  G وأخرجت الطائرة الى الوضعية الصحيحة بارتفاع أمتار من سطح الارض ، بعدها نظمت اتجاهي على إذاعة  بغداد، وتيقّنت من ذلك بعد سماع الإذاعة، وهكذا انتهت هذه المشكلة  التي كادت أن تودي بحياتنا لولا لطف الباري العزيز القدير، وسلامة نوايانا أنا وأخي المهندس زيد عبد الحميد.

كان قاطع الدفاع الجوي قد فقد السيطرة على طائرتي، فبعد استقرار الأوضاع سمعته يناديني وهو يطلب الإجابة، أخيراً أجبته بأن ارتفاعي 200 متر أسفل الغيوم ( المزنية SB- CLOUD )  )وقد حمد الله هو الآخر،  لكونه لا يملك أي صدى لطائرتي لديه، بسبب العاصفة الهوجاء هذه، حيث اعتبرنا مفقودين وقال لي : (كان هناك تحذير من غيوم رعدية  حاولنا تبليغكم به لكنكم لم تستجيبون) ، قلت له: (كنتم متأخرين حيث كنا في قلب العاصفة،  ولله الحمد استطعنا الخروج منها بقوته سبحانه) ، أجابني: (حمداً لله على سلامتكم) ،.

وهكذا استمر بنا الحال حيث تحسن الجو قرب منطقة الحبانية،  فقمت بالتسلق مرة أخرى الى ارتفاع 4000 متر، وطلبت النزول في قاعدة الرشيد الجوية، وقد سمح لنا بالنزول، وهبطنا ونحن نتنفس الصعداء ، في القاعدة ،   بعد مغادرتنا الطائرة كان أخي زيد عبد الحميد في إعياء شديد، جلسنا في مقاعدنا قليلاً بعد إطفاء محرك الطائرة، وحضر جماعة الخط الثاني، وقد وجدتهم ينظرون للطائرة وكأنهم لم يروها من قبل ، بعد هبوطنا منها وجدنا العاصفة قد فعلت فعلها وتركت آثارها على الطائرة،  بسبب تراشق كرات الثلج  عليها، مما أدى الى العديد من الشروخ والتصدع على الجسم، ولله الحمد كانت مسربات الكهرباء سليمة، إذ لولاها لكنّا في «خبر كان» ،، وهكذا كانت هذه الرحلة شديدة الخطورة، استفدت منها كثيراً وأهم استفادة أن الطائرة المزدوجة يجب أن يكون فيها طياران اثنان،  وعدم اصطحاب أي شخص بعيد عن الطيران لخطورة  الموقف، ويمكن أن يتعاون الاثنان على تشخيص الحالة الاضطرارية أكثر في مثل هكذا ظروف ،، وكنت كلما التقيت أخي وزميلي زيد بعد مرور أكثر من 35 سنة أذكره بهذا الحادث الرهيب، ونضحك عندما نتذكره.

(لقد علمت وأنا في المهجر وفاة الأخ زيد عبد الحميد بسبب نوبة قلبية حادة ، رحم الله أخي زيد فقد كان شخصاً رائعاً خلقاً وأخلاقاً، وكفاءةً،  سبق أن أنهى دراسته الأساسية في الكلية الفنية العسكرية بمصر وكنا سويةً آنذاك، ونعتبر من نفس الدورة ،، وهو من أحسن مهندسي القوة الجوية،  استطاع أن يثبت  جدارة في كافة  المناصب الفنية التي شغلها.)

،بعد عودتي الى قاعدة الوليد قمت بشرح هذه الحالة أمام الطيارين وآمر السرب الرائد صبري يعقوب وقد حمدوا الله على سلامتنا ، ويقع اللوم هنا    على مجموعة الأنواء الجوية التي أجابت بعدم ورود أي تحذير جوي قبل طيراننا في ذلك اليوم .

 

 

السرب الاول- سوخوي 7 مع عدد من ضباط السرب الخامس - كركوك - قاعدة الحرية - 1968