العمليّة الفاشلة لإنقاذ رهائن السفارة الأمريكيّة في “طهران…المعضلة… القرار… الخطة… الإخفاق

10 مارس , 2018

 

مقدمة المقال

د. صبحي ناظم توفيق

“عميد ركن متقاعد… دكتوراه في التأريخ”

8/مارت-آذار/2018

 

مقدمة

لم تكن المعلومات عن العملية الأمريكية الخاصة -الفاشلة- لإنقاذ الرهائن الأمريكيين لدى سفارتهم في “طهران” مُعلَنَةً أو مُتاحَةً منذ إجرائها بإحدى ليالي (نيسان/1980)، بل استقيتها -في أوانه- من كتاب موسوم بـ(DELTA FORCE) كتبه عام (1983) “العقيد تشارلز آلفِن بيكْويث– BECKWITH Charles Alvin) المُكَلَّف شخصيّاً بقيادة عمليّة إنقاذ المُحتَجزين الأمريكيين من مبنى سفارتهم في “طهران”، والذي شَرَّفَني بتعريبه السيد “اللواء الركن علاء الدين حسين مَكّي خَمّاس” مدير التطوير القِتاليّ بوزارة الدفاع” عام (1985).

ولم يخطر ببالي -بعد انقضاء ما يزيد على (ثلاثة) عقود على نشر ذلك الكتاب ((المُعَرَّب)) ببضع عشرات فقط ليُوَزَّعَ بنطاق محدود على كبار قادة القوات المسلّحة العراقية- أن أتناول تلك ((العملية الخاصة للغاية)) لو لم يستجلب نظري نشِر مقالة ((مُتَرجَمَة بتصرّف)) بتأريخ (10/10/2017) على الرابط https://pulpit.alwatanvoice.com/content/print/148043.html 1/5

 

والذي استغربت لاحتوائه وقائع ومصطلحات ((مُعَرَّبة)) خاطئة لا تمتّ -في الكثير منها- بصلة لـمُجرياتها والحدث الوحيد الذي تسبّب في إخفاق تلك العملية قبل المباشَرة بتنفيذ مرحلتها الأخطر مما خَطّطَه الأمريكيون.

لذلك رأيتُ من الأصوب أن أعرض -باختصار- ما احتواه الكتاب الأصل بطبعته الأولى لتنوير القارئ عمّا سطّرَه “العقيد بيكويث” من أسباب ذلك الفشل، مُستفيداً من معلومات احتوتها مقالة قصيرة كتبها “توم بينيت- “Tom Bennettبمناسبة وفاة “بيكويث” بمسكنه عام (1994) عن عمر ناهز (65) سنة.

تشكيل “قوة دلتا”

تدرج ضابط المشاة “تشارلز بيكويث” بالرتب والمناصب منذ (1952) وأُنتُقِيَ لـ”الفرقة الأمريكية/82-المحمولة جواً” عام (1955) وانتمى إلى تشكيل خاص تحت مسمّى “ذوي القبعات الخضر-(المغاوير)” سنة (1958) قبل تعيينه “مستشاراً عسكرياً” في “فيتنام ولاوس” عام (1960) خائضاً معارك متلاحقات فيهما منذ (1965)، حتى صُنِّفَ بمثابة أحد أبطالهما.

ولكنه ظلّ يعاني إرهاصاتٍ نفسيةً جمّة عند ترك الجنود الأمريكيين لجثامين رفاقهم في أرض المعركة وجرحاهم وأسراهم بين أيدي عساكر الـ”فييت-كونغ” -الذين كان “بيكويث” يمتدحهم ولا يخفي إعجابه بأدائهم القتالي بأسلحة خفيفة- حتى فاق تعداد قتلى الأمريكيين (58,000) ومفقودوهم (7,000) عسكرياً قبل أن تضع تلك الحرب الضروس أوزارها، فترسّخت في أعماقه ضرورة تأسيس “قوة خاصة متميّزة” تمتلك قدرات عالية للتحرّك السريع -عُنوةً- عند الضرورات لتنفيذ عمليات اقتحاميه تحقِّق غايات بمستويات استراتيجية ذات أهمية قصوى…وذلك لتأثّره بإيجابيات تلمَّسَها بشخصه وقتما أُنتُدِبَ لعام كامل (1962-1963) للتعايش مع إحدى الكتائب التابعة لـ”S.A.S- الخدمة الجوية الخاصة- Special Air Service” صاحبة الصيت الـمُنَفِّذة لعمليات مُتقَنة منذ تأسيسها ضمن القوات المسلّحة البريطانية عام (1941) وخلال الحرب العظمى الثانية وما بعدها.

ففي عام (1974) طرح “المقدم بيكويث” أفكاره الطموحة في هذا الشأن ضمن دراسة مُسهَبة نوقشت طويلاً في أروقة الدوائر العليا حتى أقَرَّها الرئيس “جيمي كارتر” بُعَيدَ تَسَنُّمِه الرئاسة مطلع عام (1977) وأمضى على قرار تشكيل “قوة دلتا” الخاصة مُنيطاً قيادتها لصاحب الدراسة “بيكويث” الذي نال رتبة “عقيد” عام (1976)، مع توجيه بدعم هائل لتهيئة متطلباته للإقدام على عمليات في غاية الخصوصية -متى وأينما يتطلّب الأمر- حفاظاً على الأمن القومي الأمريكي وهيبة “واشنطن” على مستوى العالم.

عقيد بيكويث

“العقيد بيكويث” مؤسس “قوة دلتا” الخاصة وقائدها منذ عام (1977)

 

انبثاق معضلة الرهائن

قبل أن يمضي شهران على الغزو السوفييتي لـ”أفغانستان” مطلع عام (1980) انبثقت هذه المعضلة التي كانت في أوائل أيامها قبل تفاقمها واستعصائها، وقتما حاصر إيرانيون غاضبون يتقدمهم طلاب جامعيون مبنى السفارة الأمريكيّة في قلب العاصمة الإيرانية مطالبين الولايات المتحدة بتسليم الشاه نشاه المهزوم “محمد رضا بهلوي”-الراقد بمستشفى خاص في “نيويورك” – لمحاكمته وإعدامه، فاقتحموه ظهر يوم (4/ت2-نوفمبر/1979) متخذين العشرات من موظّفيها وحرّاسها بمثابة رهائن إلى أجل غير مُسَمّىً، فدَقّوا إسفيناً في وشائج ظلَّتْ وطيدة بين دولتَين متحالِفتَين طيلة(38)عاماً من القرن العشرين ،

 

وبالأخص منذ عام (1941) وقتما احتل الأمريكيون والبريطانيون -لـ(5) سنوات متلاحقات- النصف الجنوبي من “إيران” أثناء الحرب العالمية الثانية ونَصَّبوا “محمد رضا بهلوي” شاهنشاه في “طهران” بعد إقصاء أبيه، فتصاعدت الأزمات بين الدولتين إلى نقطة اللاعَودة، فيما بَلغَت الجهود المُضْنِية التي بَذلَها أكثر من طرف دوليّ وإسلاميّ أبواباً مُغلَقة بمحاولاتهم ترغيب القادة الإيرانيّين لإنهاء قضيّة المُحتَجَزين بواقع (52) شخص بين أيديهم لأشهر عديدة وسط سفارتهم في قلب “طهران”، كونَهم أصحاب صِفات رسمية ويحملون جوازات دبلوماسيّة، ممّا يُعَدُّ -حسب الرؤية العالمية- خرقاً فاضِحاً لمعاهدات “جِنيف” والمواثيق الدوَليّة، وقد انعكس حيالها إصرار إيرانيّ بأنّهم ليسوا سوى جواسيس رَسمِيِّين وعملاء للـ”بنتاغون” و(C.I.A)، وينبغي أنْ يُعامَلوا على هذا الأساس.

    الرؤية الأمريكية

فَسَّرَت “واشنطن” هذه الإطالة والتَسويف الإيرانيّين على أنها إستعانة كبيرة في هيبَتها، وهي الدولة العظمى ضمن إثنَتَين تتحكَّمان في عموم الكرة الأرضيّة منذ منتصف الأربعينيات على يد نظام ثَوري متطرّف من العالم الثالث يبتغي تحدّيها … لذا يجب إيقافَه عند حدّه وتَلقينَه درساً لا يَنساه ليكون بمثابة رسالة ينبغي إقحامها في ذهن كلّ مَن يتجرأ إقداماً على خطوة مُشابِهة.

 

وهكذا نوقِشَ الأمر في العديد من الجلسات برئاسة الرئيس “جِيمِي كارتَر” في أروقة “البيت الأبيض” بحضور مُستَشارين مخابراتيين  وكبار القادة العسكريّين، فرأى البعض منهم ضرورة إنزال ضربات جويّة وصاروخيّة شامِلة ومُبرِحة على أهداف قياديّة وأخرى استراتيجية في “طهران” وعدد من الموانئ والمدن والمنشآت والقواعد الكبرى حلاًّ أمثَل لتَلْقِين ذلك الدرس… فيما عارَضَ هذا الرأي آخَرون تَمَيَّزوا بالواقعيّة وقتما نظَروا إلى هذا المَسلَك -رغم الجَبَروتِ الأمريكي- على أنه خطوة خطيرة لا تُؤدّي فحسب إلى إلحاق أذىً هائل بالدولة الإيرانيّة ويُكسِد اقتصادها الذي بدى ضعيفاً في حينه، ولكنها ربّما تُقْحِم الولايات المتّحدة الأمريكيّة في مضمار صراع طويل الأمد ذي ذيول لا تُضمَن نتائجه، بل أنّها لا تحقِّق الغاية المَنشودة لإنقاذ الرهائن، لذا فلا بُدّ من مسلك مُغايِر يَستَهدِف -قبل أي شيء- إعادتهم سالِمِينَ لبلدهم وأحضان أهليهم إذا ما بقيت “إيران” على مماطلتها.

رهائن اميركان

مُرتهنون أمريكيون في سفارتهم بطهران بين أيدي إيرانيين غاضبين يوم (ت2-نوفمبر/1979)

القرار السياسي على إنقاذ الرهائن

ولـمّا كانت “قوة دلتا” التشكيل الـمُدَرَّب الأمثل والـمُعَدّ لمثل هذه المهمات، فقد أُنيطَ الواجب لقائدها “العقيد بيكويث” وطُلِبَ منه الإسراع في عرض خطّته الممحّصة، وخُوِّلَ بإستثمار كل ما مُتاح بين يديه فضلاً عن كل ما مُتاح أمامه من الإمكانات الهائلة المتوفّرة لدى عموم القوّات المسلّحة ودوائر المُخابَرات والاستخبارات الأمريكيّة وخِبراتها المُتَراكِمة والمُتَماثِلة في مواقف مُشابِهة سابِقة، وأن تمتاز بالجُرأة والمُبادَرة عند التخطيط والمُباغتة والدِقّة المُتناهِية أثناء التنفيذ، وتشترك في تفاصيلها نُخبَة ينتقيها “العقيد بيكويث” من أفضل أفراد قوته ووحدات القوّات المسلّحة الأخرى إبتغاء تشكيل “قوة الواجب” التي ستُنقَل سراً من ثكنتها إلى “قاعدة مُصَيرة” بـ”سلطنة عُمان” وعلى ظهر حاملة الطائرات العملاقة “نيميتز” التي تحتضن مقر قيادة الأسطول الأمريكي الخامس المُرابِط عادةً إمّا في “خليج عُمان” أو “بحر العَرب”.

خارطة ايران

خريطة إيران التي تعطي صورة عن المسافات التي قطعتها طائرات نقل “قوة DELTA” نحو “طهران”

 

الإستحضارات الأولية

يسهب قائد العملية “العقيد بيكويث” في جملة إستحضاراته، ليس ضمن “قوة دلتا” فحسب بل بالتنسيق مع القيادات ((الجوية، البحرية، المارينز، الأسطول الخامس))، ودوائر “C.I.A” و”D.I.A”، وقائد حاملة الطائرات “نيميتز” والقائد الأمريكي لقاعدة “مُصَيرة” العُمانية، فضلاً عن قباطنة طائرات النقل والهيلوكوبترات المخصصة للواجب… وإليكم ملخّصاً عنها:-

  • أنه إنتقى ضباط “قوة الواجب” ومراتبها اللائقين لهذه المهمة الخطيرة والتي يُكَلَّفُ بها للمرة الأولى منذ تأسيسه لقوة ( Delta Force) عام (1977) وتعيينه قائداً لها، واضعاً نصب عينيه أن يكونوا -قدر المستطاع- أصحاب وجوه ذات معالم شرقية ولياقة بدنيّة عالية وذكاء متميِّز ودِقّة بالرمي الغَريزيّ على الجبين وبين الحاجبَين -حتى لو كان الضياء الـمُتاح خفيفاً- باستثمار إشعاع اللَيْزَر المتوفر في مُسدّساتهم الصَمّاء ورشاشاتهم المُصَغَّرة (الغَدّارات) المُزَوَّدة بـ”كَواتِم الصوت”.
  • أُنشِئ على عُجالة -وسط قاعدة “فورت براغ” بولاية كاليفورنيا الشمالية- مَبنىً مُطابِقاً في معظم تفاصيله لمبنى السفارة الأمريكيّة التي يُحتَجَز فيها المرتَهَنون، حيث مارس المكلّفون -لمرات عديدة- الاقتحام الـمُزمَع بأسلحتهم وكامل معدّاتهم مُستَخدِمين العَتاد الحيّ لاستهداف دُمىً كُسِيَت بقيافة الحُراس الثوريين الإيرانيين.
  • خصصت (خمس) طائرات نقل كبيرة من طراز “هيركُلِس/C–130” -إحداهن خزان وقود للإرضاع الجوي KC-130- ورابطت في “قاعدة مصيرة” العٌمانية، وجميعها من النوع الـمُحَوَّر بمَكابح هوائية عديدة ذات مساحات واسعة ومجاميع من الإطارات

العريضة ذات الضغط المنخفض، تؤهّلها للهبوط على أرض ترابية لا يتجاوز طولها (700) متر والإقلاع منها، تُصاحبها (ثمان) هيلوكوبترات ضخمة بعيدة المدى تتبع مشاة البحريّة (مارِينْز) من طراز “سوبر ستاليون HH–53” الثقيلة ستقلع من على ظهر حاملة الطائرات “نيميتز-Nimitz” جنوبيّ “مضيق هرمز” على مقربة من السواحل الإيرانية.

نيمتز

حاملة الطائرات العملاقة “نيميتز-Nimitz” التي أقلعت منها الهليكوبترات المشاركة بعملية إنقاذ الرهائن الأمريكيين

هليكوبترات العملية

الهليكوبتر الأمريكية الثقيلة (سوبر ستاليونHH-53) تحمّل جنوداً على سطح حاملة طائرات

معضلة الوقود

ظلّت مسألة وقود الطائرات من أهم المعضلات التي يستوجب إيجاد حلول لها، كونها تشكّل ((العصب الرئيس)) لعموم هذه العملية بعيدة المدى في أرض معادية… فنوقِشَت وفقاً لما يأتي:-

  • لـمّا كانت المسافة من “قاعدة مُصَيرة” الواقعة إلى الجنوبي الشرقي لسلطنة عُمان -حيث ستقلع منها طائرات النقل (C-130) الأربع، فضلاً عن الصهريج – ولغاية موقع الهبوط (1500) كلم، فلا مشكلة لديها كون مدياتها (6,000) كلم بحمولة خفيفة، وتحقّق ذهاباً وإياباً مُريحاً مع احتياطي كافٍ.
  • أما الهيلوكوبترات الثماني الثقيلات والتي يبلغ مداها -إن خُفِّفَت حمولتها- حوالَي (1800) كلم، فإنها بعد الإقلاع من على ظهر حاملة الطائرات (نيميتز-Nimitz) ستقطع ما يقارب (900) كلم لغاية الهبوط، ولا يبقى لديها سوى الحد الأدنى للعودة من دون أي إحتياطيّ للطوارئ.
  • إذن فالمشكلة الأعظم تكمُن في ضرورة إبقاء الطائرات بموقع الهبوط الترابيّ -الذي سيتم تهيئته على يد مجموعة مُتَسلِّلة- على أهبة التَرَقّب والحذر جاهزةً للإقلاع الفوري تباعاً، سواءً إن داهَمَها خطر أو عند عودة جماعة الاقتحام ومعهم العشرات من المرتَهَنين… ولـمّا لا يُعقَل أن يرافق قوة الواجب عدد من “عجلات تشغيل المحرِّكات (Starter)”، فإن الضرورة تستوجب عدم إطفاء محركات (ثلاث عشرة) طائرة ضخمة، بل إبقاءَها تعمل بالسرعة الأدنى (Slowly) فترة لا تقل عن ساعتَين ونصف الساعة في أفضل الظروف.
  • ولحلّ هذا الإشكال تقرر أن ترافق قوة الواجب طائرة صهريج واحدة من طراز KC-130)) مليئة بالوقود، وتكون آخر من يهبط في الموقع الترابي لتُعوّض عن المصروف لدى خزانات (8) هليكوبترات ستظلّ محركاتها في حالة الاشتغال.

تزود بالوقود

طائرة صهريج لإعادة إملاء الوقود جواً (KC-130) ترضع هليكوبترَين ضخمتَين طراز (سوبر ستاليون HH-53)

 

تحشيد قوة الواجب

احتوت الخطة العامة تعقيدات تم تسهيلها ومُعضِلاتٍ رُبِطَت نهاياتها السائبة بإتقان في غضون الشهرين اللذين سبقا موعد العملية، قبل أن يتم القرار النهائي على البدء بها:-

  • قبل أيام من ليلة الاقتحام تتسلّل مجموعة صغيرة مُختصّة من “مُوجِدي الطريق PATH FINDERS” إلى الأرض الإيرانية خِفيَةً لتستطلع مهبطاً ملائماً لـ(ثلاث عشرة) طائرة، ويتيَقَّن أفرادها من صلابة أرضه ويهيّئون مستلزماته باستثمار أدق أجهزة تثبيت المواقع (G.P.S) المرتبطة بأقمار صناعية، فيؤسّسون أشبه ما يكون بـ”موقع سيطرة” لمطار محدود.
  • تهبط طائرات النقل والصهريج والهيلوكوبترات ويتكامل تعدادها قبلَ ساعة ونصف فقط من منتصف ليلة (24-25/نيسان-أبريل/1980) -حسب توقيت “طهران” المحلّي- وذلك بعد طَويِها مسافة (1000) كلم بارتفاعات منخفضة للغاية لا تزيد عن (60) متر اتقاء الرادارات، وتسلك مناطق فارغة من المدن والقرى بغية عدم انكشافها، وبطيران مُتعرّج يستغرق حوالي (2،5) ساعة يُصاحبه تشويش ألكترونيّ متقطّع على عموم الرادارات الإيرانية، فتنتشر الطائرات سراعاً وسط أرض براح صَلْبَة من صحراء مُقفَرة على مبعدة حوالي (100) كلم إلى الجنوب-الشرقي من “طهران”.
  • وبينما تحلّق مقاتلات التفوق الجوي (F-14) -الـمُقلِعة من مدرج الحاملة “نيميتز”- في أجواء الخليج العربي في تلك الليلة وتراقب الأجواء الإيرانية بغية التوغّل فيها إن قام الطيران الإيراني بعملٍ ما ضد قوة الواجب، وفيما تُجَهَّز عشرات أخرَيات للإقلاع الفوري إذا ما تعرضت القوة لخطر ما… فإن جنوداً يحملون على أكتافهم قاذفات صواريخ مُسَيَّرة (ستِنكَر-Stinger) ينتشرون في محيط منطقة الهبوط لتأمين الدفاع الجوي الذاتي عنها.
  • تُنْزَل من بُطونِ الطائرات والهيلوكوبترات (12) سيّارة فاخِرة حديثة الصُنع سوداء اللون مُظَلَّلَة الزجاج من طراز “مَرسِيدَس” لا يخترقها الرصاص من تلك التي يستخدمها -عادةً- كبار القادة الإيرانيّين الجدد أثناء تنقّلاتهم داخل العاصمة وخارجها، وتتداخَل فيما بينها (5) حافِلات ركّاب حديثة ومُصَفَّحة (سعة 18 شخصاً) بمثابة حمايات -(اثنتان) منها ثُبِّتَت في مقدّمتها دعامات حديدية لكسر بوابة مبنى السفارة إذا تطلَّبَ الأمر، وأخرَيان للإسعاف الطبي- وترافق الموكب (4) درّاجات ناريّة راقية بيضاء اللون يرتدي سائقوها قيافة شرطة المرور الإيرانية… ولأسوأ الاحتمالات فقد كانت الإطارات المطاطية لجميع العجلات من النوع الذي لا يخترقه الرصاص وفي جوف أيٍّ منها عشرات الجيوب بدلاً من أنبوب هوائي (Tube) واحد.

خطة الإقتحام

  • يتهيأ أفراد “قوّة الإقتحام”بواقع (52) جندي من(DELTA FORCE) مُطَعَّمِين بعناصر من مشاة البحريّة (مارينز) يرتَدَون واقيات تحمي رؤوسهم وأجزاءً من أجسادهم من الرصاص، وقد أتقنوا عدداً من أهم عبارات الغضب والأوامر والإستخفاف الدارجة باللغة الفارسية قد تفيدهم إذا ما ((تجرّأ)) إحد أفراد نقاط السيطرة بمدخل “طهران” على إيقاف الموكب، ولذلك أطلقوا لحاهم ورتّبوها وإرتدى العديد منهم عَمامات وجلابيب فبَدوا شبيهين برجال الدين الإيرانيين، أما الآخرون وسائقو السيارات فقد إرتدوا أزياء شبيهة لمسلّحي الحرس الثوري- فسينطلقون من موقع الهبوط على طريق ترابيّ محدَّد مُسبقاً قبل أن يسلكوا الطريق العام نحو “طهران”، وهم مُزَوَّدون بنظّارات تَقي عيونهم من الضياء الفائِق.
  • وحالَما يَقترب “الرتل الفاخر” من مبنى السفارة الأمريكيّة مع منتصف الليل بشكل يُوحي للناظِرِين بأنّ مَوكِباً مَحمِيّاً يَضمّ عدداً من كبار المسؤولين قد حَضَروا لتَفَقّد الرهائن كالعادة التي سرت في البعض من ليالي الأشهر الخمسة المُنصَرِمات.
  • ووقتما يُفتَح أمامهم بوّابته الـمُقفَلة، فإنّ جنود الاقتحام المُرتَدين لِنَظّاراتهم الواقِية من الأضواء- يقذفون وابلاً من الرُمّانات اليدويّة الضَوئيّة بكل الاتجاهات بما فيها باحة المبنى- لتفرض عَمىً وقتيّاً على عيون كل من في تلك البقعة فيُحرِمُهم من الرؤية والاستهداف بالسلاح، فيستثمر المقتحِمون تلك الدقائق ليَغتالوا الحراس الإيرانيّين المنتشرين حوالَيّ السياج والباحة، في حين يتسلّق عدد منهم أبراج المراقبة -باستخدام الحبال- ليترصدوا المحيط والشوارع.
  • وحال اقتحام المبنى -الذي يجب أنْ يتمّ بسرعة فائقة- يُقْضَى على الحُرّاس الداخليّين، مع وجوب الاحتراز الأقصى على حياة الرهائن رغم نيران تتبادَلها أسلحة متنوّعة، وقبل أنْ تدفعهم زمرة مُخصّصة لهذه المهمّة نحو الحافِلات المُصفَّحة، فتَنطَلِق بهم عائدة للموقع الذي تنتظرهم الطائرات، لِتَقلَع راجِعة إلى من حيث أتَتْ.

الشؤم يحيط بالعملية

كنتُ مُستأنِساً في قراءة إستحضارات “العقيد بيكويث” وضباط ركنه ومسؤولي مجموعاته، وتَوّاقاً لمعرفة السبب الرئيس الذي أودَى إلى ذلك الفشل الكارثي قُبَيْلَ المُباشَرة بتحقيق تلك الخطّة الدقيقة والجهود الجبّارة المبذولة لتطبيقها وصرف ملايين الدولارات على وضعها موضع التطبيق، لأكتشف أنّ المُفارَقة لم تَقَع سوى لسوء طالِع قائد العمليّة و”قوة دلتا” من جهة، ودولة الولايات المتّحدة من جهة ثانية، يقابلهما حسن طالع “جمهورية إيران الإسلامية”.

فبُعَيد تَنفُّس “بيكويث” الصَعْداء في منطقة التحَشّد وتهيّؤه لامتطاء سيارة المرسيدس” الأولى ليكون في مقدمة الموكب الذي سيسير نحو “طهران”، مُستَبشِراً ومٌخبِراً القيادات العليا بهبوط آخر الطائرات الـ(13) بسلام على ذلك المَدرج الصحراوي،… فقد شاء سوء القَدَر -لكثافة الغُبار المتصاعِد جرّاء دَوَران عشرات المَراوِح العمودية والأفقية والذَيلية- أنْ تبادر إحدى الهيلوكوبترات لإملاء خزانها عن طريق خرطوم مُدَّ على الأرض من طائرة الصهريج (KC-130)، ويخطأ قبطانها في تقدير المسافة -ولو بعدة سنتمترات- لتَحتَكّ نهايات رِيَش مروحتِها الرئيسة الدَوّارة مع الطَرَف الأقصى لجناح “الصهريج” العريض، ليندلع فوراً حريق هائل بكلتا الطائرتَين معاً، ما لبث خلال ثوانٍ وأنْ أحاطَهُما لتَنفَلقا وتتطاير شظاياهما بنيرانها نحو هليكوبتر ين أُخرَيَين كانتا الأقرَبَين منهما فتُعطِبانهما لتغدو الخسائر (ثلاث) هيلوكوبترات تُضاف إلى “الصهريج”، ويُصرَع (ثمانية) أشخاص ويُصابَ آخرون بحروق وجروح، وينشغل الجميع بإطفاء الحرائق وإسعاف الجرحى قبل العثور على جثامين الحًرقى، فيما تطايرت عشرات الملايين من الدولارات من أثمان الطائرات والصرفيات الهائلة على “قوة دلتا” ومتطلبات عمليتها الراهنة في غضون لحظات لتمسي هباءً منثوراً.

حطام الطائرات

القرار الميداني

كان لا بدّ للقائد “بيكويث” أن يقدّر الموقف الراهن ليتخذ قراراً سريعاً بُعَيدَ تلك الفاجعة المُرِيعة، واضعاً نصب ناظرَيه أنّ:-

  • الإحباط النفسي لم يُصبه فحسب، بل كلّ أفراد القوة، ما يجعل تنفيذ المرحلة الأخطر من العملية في عداد المستحيل.
  • العدد الذي يحتاجه لإرجاع كامل القوة بصحبة الرهائن يجب أن لا يدنى عن (ست) هيلوكوبترات، فيما المتبقّي في حوزته (خمساً) فقط.
  • هناك احتمالية جلب أضواء الحرائق الهائلة للعَيان -في تلك الليلة الصافِية ووسط بقعة مُقْفَرَة من تلك الصحراء الجرداء- أنظار أهالي القرى، فيُخْبِروا جهة أمنيّة أو رسميّة، فيُكشَف الموضوع قبل بلوغ مُنفِّذي الاقتحام العاصمة “طهران”.
  • المشكلة الأعظم تنحسر في موضوعة الوقود بعد حرمان “قوة دلتا” من حبلها الشوكي وعمودها الفقري، فإذا واصَلَ مرحلة الإقتحام نحو “طهران” وظلّت محركات الطائرات تعمل طيلة ساعات، فإن وقود الهليكوبترات ستنفد وتنطفئ محركاتها حيث يجب تركها في ذات الموقع… وهذا ما لا يُعقَل مُطلَقاً.
  • إذن:- العودة فوراً ولو بخفي حُنَين” هو القرار الأوجب.

 

 

 

الموقف في البيت الأبيض

كان الوقت عصراً في “واشنطن”، حيث توَسَّطَ الرئيس “كارتَر” كبار مستشاريه بغرفة عمليّات البيت الأبيض، وإلى جانبه رئيس هيأة الأركان العامّة المُشتَرَكة وقادة القوّات المسلّحة مُجتَمِعِين، مُتَمتِّعين بحسن التخطيط وأقصى درجات التَفاؤل، يَتَرَقَّبون ببعض القلق مُجرَيات الأحداث، ويعدّون الدقائق الثقيلة انتظاراً لانطلاق “قوّة دَلتا” من المَهبَط الصحراوي نحو قلب العاصمة الإيرانيّة،

 

 

 

حين صَدَمَهم في الصميم ذلك القَدَر الـمُفجِع، فما كان منهم إلاّ وأنْ أقَرّوا سراعاً أنّه ليس بالإمكان تدارك الأمر إلاّ بإستحضارات ربّما تَطال أياماً عديدة مصحوبةً بنواقص خطيرة ومُجازفات غير محسوبة العواقب، فلم يجدوا أمامهم إلاّ الإيعاز إلى “العقيد بيكويث” بتجميع ما يمكن تجميعه والرجوع فوراً إلى حيث أقلعت طائراته، فيما أَوعَزَ قائد القوّة البحريّة الأمريكيّة بإطلاق حاملة الطائرات “نيميتز” لـمُقاتلاتها الاعتراضية “توم كاث F–14” لتُحلِّق في سماء الخليج العربي على مقربة من سواحله الشرقيّة بغية التدخّل العمليّاتي في أجواء “إيران” إذا ما أقدَمَ طيرانها على اعتراض سبيل طائرات “قوة دلتا” في طريق العودة.

كانت نكبة حقيقيّة للسياسة الأمريكيّة وعسكرتها، إذْ لم يَعُد بالإمكان ولو مجرّد التفكير بتكرار عمليّة مشابهة، إثر فقدان عنصر “المُباغتة/المُفاجأة” التي تُعتَبَر المَبدأ الأهمّ عند الإقدام على أمثال هذه العمليّات.

الصمت الـمُستغرب

ولكن المُستَغرَب الأغرب، أنّ القيادة الإيرانيّة من ناصِيتها -وليست الأمريكيّة لوحدها- لم تأتِ بشكل مُطلَق على أيّ ذكر لهذه المُحاولة الأمريكيّة الفاشِلة، والتي ترَكَتْ في ميدانها شواهد لا تقبل التأويل أو الإنكار، تَمَثَّلَتْ في (4) طائرات ضخمة احترقت وسط صحراء ليست بعيدة عن “طهران”، والتي يُفتَرَض أنْ تكون بمثابة دليل دامِغ لعدوان أمريكيّ مفضوح، وفَرحَة عظيمة لـ”طهران” صاحبة العَداء الأشدّ حيال ما أطلَقَتْ عليه بـ((الشَيطان الأكبر)) في جميع وسائل إعلامها المركزيّة وخُطَب كبار رجال الدين في صلوات الجُمعة وتصريحات قادتها السياسيّين والعسكريّين… في حين بقي الأمريكيّون المحتَجَزون قابعين بذلك المبنى حتى اندلعت الحرب العراقية-الإيرانية في (أيلول/1980)، ولذلك فلم أستطع -لعِظَم انشغالنا بأحداث أخطر- أنْ أتابع كيفية تسريحهم ومن كان وراء ذلك، وما إذا كانت بين الطرفَين صفقة ثُنائيّة غير مُعلَنة من عَدَمِها.

ولكننا سنعلم بعدئذٍ أنّ “آية الله الخُمَيني” -بعد توسّط جزائري استغرق أشهراً- قرر تسليمهم فور مغادرة “الرئيس جيمي كارتر” سُدّة الرئاسة وتسنّم خَلَفِه “رونالد ريغان” مقاليد السلطة في أواخر (ك2-يناير/1981)، ولكن بعد أن ((حَرَّرَتْ)) الحكومة الأمريكيّة ما مجموعه (567) مليون دولار من الأموال الإيرانية المُجمَّدة لديها، مُقابل (52) أمريكيّ قبعوا في أروقة مبنى سفارتهم (444) يوماً.

“بيكويث” يودّع العسكرية

عاد “العقيد بيكويث” إلى “واشنطن” خائباً يتوقع توبيخاً شديد اللهجة لدى امتثاله أمام الرئيس “جيمي كارتر” وكبار القادة العسكريين، ولكنه فوجئ بترحابهم وتبيانهم أن لا ذنب له في هذا الإخفاق كونه بحكم القَدَر وسوء تقدير لطيار هليكوبتر، إلاّ أنه أصرّ على تقديم استقالته الخطّية وتحمّله فشل تلك العملية لكونه قائدَها وجزء من مجموعة الطائرات المنكوبة، وقراره عدم مواصلة المسير نحو “طهران” ليُصرَعَ نخبة من الجنود الممتازين.